كتب أوين جونز أن رجلاً عراقياً غاضباً واجهه في شارع حيفا ببغداد وهو يقول: "أنتم دمّرتم العراق". كان الصحفي العراقي غيث عبد الأحد يرافقه ويترجم كلماته، لكن النظرة الثاقبة لذلك الرجل أوصلت الرسالة بوضوح. في ذلك المكان، الذي اشتهر في عام 2004 باسم "شارع الموت"، روى عبد الأحد كيف قصفته مروحيات أمريكية بصواريخها فحوّلت المدنيين إلى أشلاء، بينما كان يلتقط صوراً لضحايا يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
بالنسبة لجونز، يشير هذا إلى الطريق الدموي من بغداد إلى غزة، حيث غياب المحاسبة عن جرائم الاحتلال في العراق مهّد الطريق أمام ما يصفه بـ "الإبادة" التي يتعرض لها الفلسطينيون.
ونقلت الجارديان أن الحرب الأمريكية البريطانية على العراق، التي وصفها الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان بأنها غير شرعية، دفعت البلاد إلى فوضى مميتة أزهقت أرواح نحو 300 ألف عراقي، معظمهم مدنيون، بحسب إحصاءات "إحصاء ضحايا العراق". بعض الضحايا سقطوا بقصف مباشر لقوات الاحتلال، وآخرون بأيدي ميليشيات طائفية أو جماعات مسلحة.
ويؤكد عبد الأحد أن ما رآه في شارع حيفا لم يكن استثناءً بل مشهداً مكرراً. حتى المجازر الموثقة، مثل مذبحة حديثة عام 2005 التي قتل فيها 24 مدنياً بينهم طفل في الثالثة، انتهت بلا محاسبة بعد إسقاط التهم عن الجنود.
ويطرح جونز السؤال: كيف يمكن لجرائم غزة أن تحدث بهذه الفجاجة؟ إسرائيل، كما يكتب، قتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين وُصفوا بـ"الحيوانات البشرية"، وأغرقت القطاع في مجاعة "من صنع الإنسان"، بينما وفّرت الولايات المتحدة وحدها نحو 18 مليار دولار دعماً عسكرياً لها في عام واحد. الغرب اكتفى ببيانات قلق دون فرض عقوبات حقيقية، ما يثبت – وفق الكاتب – أن حياة العرب اعتُبرت رخيصة منذ العراق.
ويشير المقال إلى أن الاحتلال أسس للطائفية عبر استقدام سياسيين منفيين زعموا تمثيل السنة والشيعة، وهو ما قاد إلى تفكك المجتمع وصعود "داعش". في ظل غياب المحاسبة، صُوِّر الغزو في الذاكرة الغربية كـ"خطأ" لا كجريمة.
تقرير شيلكوت البريطاني عام 2016 أدان توني بلير لتضخيمه تهديد صدام حسين، لكن بلير واصل حياته السياسية والمهنية محققاً أرباحاً طائلة من أنظمة استبدادية، بينما نال جورج بوش مكانة "جمهوري محترم" لمجرد أنه أكثر تهذيباً من دونالد ترامب، رغم أن سياساته قتلت أكثر. أما الإعلاميون الذين روجوا للحرب فلم يخسروا مناصبهم ولا سمعتهم.
ويضيف الكاتب أن الحروب الكبرى الثلاث للغرب في القرن الحادي والعشرين – العراق وأفغانستان وليبيا – كلها انتهت بكوارث، وأدت بحسب دراسة لجامعة براون إلى مقتل أكثر من 4.5 مليون إنسان. ومع ذلك لم يُحاسب أحد. لو حصلت محاسبة حقيقية، ربما لما كان ممكناً لإسرائيل أن تشن حرب إبادة على غزة بدعم عسكري ودبلوماسي غربي شبه كامل.
ويصف جونز بغداد اليوم بأنها تبدو هادئة من الخارج، تغطيها رافعات البناء ومشاريع الرفاه، بينما تواصل الميليشيات الطائفية فرض نفوذها داخل الدولة وتهديد معارضيها. تنتشر في شوارعها لافتات تذكّر بالضحايا، إحداها تقول: "استشهدوا بقصف أمريكي غادر". بالنسبة للعراقيين، الذاكرة لم تُمحَ، بينما الغرب يواصل سلب الضحايا معاني حياتهم وموتهم، كما فعل عبر تاريخه الاستعماري في الكونغو والهند والأمريكيتين.
ويحذّر الكاتب من أن تجاهل جرائم العراق يفتح الباب أمام تكرارها. اليوم يُبث ما يحدث في غزة مباشرة إلى العالم، ولم يعد ممكنًا التذرع بالجهل. لذلك يرى جونز أن هذه المرة لا بد من محاسبة الساسة والإعلاميين الذين ساندوا أو برروا القتل الجماعي وتجويع السكان. فإذا غابت المحاسبة مجدداً، لن تكون غزة آخر المآسي، بل مجرد محطة على طريق جرائم مستقبلية حتمية.
https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/aug/26/gaza-iraq-baghdad-west-war-crimes#img-1